كلام لا يقول شيئا




كلام لا يقول شيئا




1
مللت من الكلام ..سئمت من سماع نبرة صوتي...يتردد صوتي آليا مثل قاريء الرسائل الآلي.
ما شعورك لو أجبرت على الكلام....
لو وجه إلى رأسك مسدس وقيل لك تحدث وتحدث وتحدث ..........بلا انقطاع... ساعات.. وساعات...تكلم وأنت في قلب إرهاقك....تحدث وأنت في صميم تعبك ...تحدث وأنت في شتاء حزنك وفي ربيع فرحك... المهم أن تتحدث وبلا انقطاع..حالتك الثابتة هي الكلام واستثناؤك هو الصمت...هو ذا بالضبط ما يحصل لك وأنت تدخل الصف تلو الصف تمارس الكلام تلو الكلام.تمارس الحديث والإلقاء في كل أحوالك...الاعتيادية والغريبة...أمام الجموع التي تمارس هي أيضا الصمت تلو الصمت...


أظنهم سئموا الصمت كما سئمت أنت الحديث....تمتلئ الحجرة بالملل يخرج من النوافذ ويسيل من تحت الأبواب ......طوفان من الملل يجتاح الأمكنة الي ترتادها يتبعك ويسبقك ....وأنت, أنت ,لازلت تتكلم ..أنت المتكلم الأوحد.... والبطل الأوحد إن كان ثمة بطولة ...
ما فائدة ترديد حديث موجود أمامهم في صحائف كتبهم وأوراقهم...ما فائدة أن تقول ما يعرفه الآخرون ولم الحرص على قول المقول وتعريف المعروف..
هل جربت أن تعشق الصمت فلا تجده...تجري ورائه فيهرب منك...
يخرج الكلام لأول مرة ملونا بألوان قوس قزح..ثم...يبهت تدريجيا ومرة بعد مرة إلى أن يصبح رماديا باهتا... ...رماديا قاتلا...
.( عندي أمنية..! قلت لصديقتي ، قالت: ماهي؟؟ قلت : نفسي ... أسكت !
مهنة المعلمين بلا منازع هي مهنة المتكلمين.. ولكنهم متكلمين يختلفون عن متكلمي العصر العباسي حيث كان أولئك فلاسفة...لكن المعلمين( المتكلمين الجدد ) يتكلمون وربما لا يقولون شيئا...
**************************************
2
من زاوية ما داخل حجرة الصف وبينما كنت أمارس دور المتحدثة الوحيدة إذا بي أسمع صوت حديث خافت......أنقر بقلمي على الطاولة...قلمي هو المتحدث الثاني عندما أصمت...يرجع الصمت وصدى صوت القلم.....أنا وأنا التي أتحدث فقط ولا أحد يجب أن يتحدث سواي.....أكمل حديثي :
( الشاعر في العصر الحديث هو نصف همجي يعيش في عصر الحضارة ....)
من الذي قال هذا الكلام العقاد أم ت إس إليوت؟؟؟...و ماعلاقة
هذا بشاعر المليون.... وما علاقة تلميذاتي بهذا وما علاقتي أنا بهن ..
غيبوبة فكرية تجتاحني أنا أم هن؟؟؟...هل عن غائبات عن عالمي أم أنا غائبة عن عوالمهن.؟؟؟؟..هوة تبلغ قرونا من الزمن تفصل بيني وبينهن..وتفصل بينهن وبين الكتاب... يجب أن نردم هذه الهوة ...أنظر تحت قدمي أبحث عنها..لأبني فوقها جسرا..فلا أجدها....أحاول أن أهرب من ثرثرة المقررات... بتبسيط... بتقريب بإقناع...فأجدني أقع في الفخ نفسه ..مناهجنا كمن يعطي الجائع الموشك على الهلاك في مفازة قاحلة، الذهب والجواهر بدلا من الخبز.. ..وريثما تتفق المناهج على معادلة تقريبية تجمع بين الحتمية والمثالية سنظل نتكلم ولانقول شئيا..
3
ذات عام دراسي كامل أصبت بالتهاب حاد في حبالي الصوتية تحول إلى احتقان ..كدت أفقد صوتي .. كتب لي الطبيب مجموعة من الأدوية وأمرني ألا أتحدث كثيرا وألا أُجهِد حبالي الصوتية .لم أنفذ الشق الثاني طبعا .بحكم المهنة .. ونفذت لأول فلم يجد نفعا.. ..ولم تتحسن حبالي الصوتية أبدا ..قيل لي الحل في تدخل جراحي لتسوية الحبال الصوتية ..سمعت عن البعض ممن فقد صوته تماما وإلى الأبد بعد مثل هذه العمليات..فزعت إلى الإنترنت أبحث عن معلومات حول هذا المرض وسبل علاجه.. وجدت أنه مرض معروف وأنه في الغالب يصيب المعلمين (والمغنين)...عرفت كثيرا عن الحبال الصوتية والحنجرة وطبقات الصوت حتى غدوت موسوعة في هذا الموضوع ... ولكن هيهات المعرفة وحدها أن تجديك نفعا...خاصة بعد فوات الأوان..
تغير صوتي ..أصبحت أتخيله متموجا باهتا...استخدمت كل محسنات الأصوات والعلاج بالأعشاب والمواد الطبيعية ولكن دون أي تحسن يذكر ...صَمَتُ وصَمَتُ ومارست الصمت كثيرا فلم يرجع صوتي...
ما شكل صوتي قبل أن يتغير؟؟.. نسيته.. تخيلت أني فقدت نبرتي الشخصية وإلى الأبد وأن صوتي تحول آخر إلى الأبد....هل قَدِرَ للمعلم أما أن يفقد صوته أو أن يفقد عقله....
ولكن حين أذن الله شُفيت..بلا أدوية أو عمليات..وعاد لي صوتي بعد سنة من الغربة ...ونبت لي صوت جديد..لامع وصقيل بدلا من صوتي الباهت القديم..
وحتى تاريخ كتابة هذه السطور لازلت أتحدث وأتحدث وأمارس مهنة المتحدثين والملقنين .... في انتظار أن يخترع الإنسان وسيلة أخرى للتخاطب أكثر متعة وأقل جهدا ، كما اخترع اللغة ذات يوم وسيلة للتخاطب.



بقلم الاستاذه : رحمة العتيبي


1 التعليقات:

غير معرف يقول...

جزاك الله الف خير وجميع المعلمات ع الجهود المبذوله في تعليمنا

الهنوف العتيبي